بين الخطاب الداعم والقرار المانع: إداري أم سياسة ممنهجة؟
نشر بتاريخ: 2025/12/06 (آخر تحديث: 2025/12/06 الساعة: 17:31)

لم تكن واقعة منع خريجي التمريض الفلسطينيين من مزاولة المهنة في لبنان حدثاً منفصلاً أو خطأً إدارياً طارئاً، بل حلقة جديدة في سلسلة طويلة من السياسات المتقلبة التي تستند إلى تشريعات قديمة، ومراسيم وزارية متغيرة، وقرارات حكومية مرتبّكة تُمسَك من أطرافها بخيوط سياسية واضحة. فمنذ إقرار قانون العمل اللبناني الصادر عام 1946 وتعديلاته، وصولاً إلى القانون رقم 129/2010 الذي ألغى شرط المعاملة بالمثل بالنسبة للاجئين الفلسطينيين من دون أن يمنحهم حقاً صريحاً ومتساوياً في مزاولة المهن المنظمة بنقابات، ظل حق العمل بالنسبة لهم خاضعاً لإرادة الوزراء وتعليماتهم الآنية أكثر مما خضع لمنطق الحقوق والضمانات.

الإطار القانوني: قوانين ثابتة وقرارات متقلّبة

تعتمد وزارة العمل على مراسيم تصنيف «المهن المحصورة باللبنانيين» بموجب الصلاحيات المخوّلة للوزير وفق المرسوم التنظيمي رقم 17561/1964، وهو الإطار القانوني الذي يمنح الوزير القدرة على استثناء أو حصر مهن معينة بحسب ما يراه ملائماً. وعبر هذه الآلية تحديداً، لعبت القرارات الوزارية، ومنها القرار المطبق فعلياً منذ عام 2021 بشأن توسيع نطاق المهن المحصورة، دور المقصلة التي تتراجع أو تتقدم وفقاً لموازين القوى السياسية. وعلى خط موازٍ، كان مجلس شورى الدولة قد علّق سابقاً بعض هذه القرارات بحجة تجاوز حدّ السلطة، لكنه لم يتمكن من إنشاء حماية ثابتة لحقوق اللاجئين المهنية، لتبقى الحالة رهينة مزيج من التفويض التشريعي والقرارات التنفيذية المرتبطة بالمنصب لا بالمبدأ.

مهنة التمريض نموذجاً: بين السماح التاريخي والمنع المفاجئ

في قلب هذا المشهد، ظهر القرار الأخير بمنع خريجي التمريض الفلسطينيين من الحصول على تراخيص مزاولة المهنة، رغم أن ممارسة التمريض كانت مسموحة لهم عملياً لسنوات طويلة في مؤسسات رسمية وخاصة، ورغم أن نقابة الممرضات والممرضين تعاملت معهم في فترات سابقة باعتبارهم جزءاً من القوى الصحية العاملة في الميدان. جاء هذا المنع تحت توقيع وزير الصحة الحالي الدكتور ركان نصرالدين ووزير العمل محمد حيدر، وكلاهما محسوب سياسياً على البيئة الحزبية الداعمة لـحزب الله أو المتحالفة معه داخل الحكومة. وهنا يصبح السؤال مشروعاً: كيف يمكن لسلطة سياسية تقدّم نفسها إعلامياً كحاملة لواء «الدفاع عن القضية الفلسطينية» أن تكون هي نفسها من يوقّع القرارات التي تقضم ما تبقى من فرص العمل لهذا الشعب، ولا سيما في مهنة إنسانية كالتمريض؟

الواقع الديموغرافي والاجتماعي: أرقام تفضح السياسات

تتقاطع دلالات القرار مع واقع إحصائي صادم. فبحسب بيانات الأونروا وتقارير المنظمات الدولية، يعيش ما بين 200 و225 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان، ويقع أكثر من 80% منهم تحت خط الفقر، مع مستويات بطالة غير رسمية تلامس نصف القدرة العاملة. وخلافاً للصور النمطية التي تُصوّر الفلسطينيين كمنافسين في سوق العمل، تظهر الإحصاءات الميدانية أن معظم المتطوعين في قطاعات الإنقاذ والخدمات الصحية والطبية المجتمعية — ومن ضمنها الطوارئ، الإسعاف الأهلي، مكافحة الحرائق، التمريض المنزلي، والرعاية داخل المخيمات — هم من الفلسطينيين أنفسهم. فهؤلاء يشكّلون «الخط الأول» في تقديم الخدمات الأساسية في المناطق الأكثر فقراً في لبنان، بما فيها مناطق لبنانية لا تخدمها الدولة بانتظام.

البعد السياسي: الخوف الديموغرافي ونفاق الخطاب

القرار الأخير لا يمكن عزله عن حسابات سياسية عميقة. ففتح المهن المنظمة أمام الفلسطينيين شكّل دائماً قضية حساسة تُقرأ بنظارات ديموغرافية بحتة؛ حيث تعتبر بعض القوى أن منح اللاجئين فرص عمل نظامية قد يخلق «استقراراً اقتصادياً» يؤدي إلى مطالب مدنية لاحقة، في مشروع يُصوَّر غالباً كـ«توطين مقنّع». المفارقة أن هذه المعادلة تُستخدم حتى من قبل الجهات السياسية التي ترفع خطاب «الممانعة» و«رفض التوطين» و«دعم الشعب الفلسطيني»، بينما تمسك في يد أخرى بالقرارات التي تمنع الفلسطيني من العمل ولو في أكثر المهن إنسانية.

وإذا كان حزب الله قد امتلك بين عامَي 2018 و2022 أغلبية سياسية نسبية مكّنته من التأثير المباشر في مسار التشريعات داخل المجلس النيابي، فقد عجز — أو امتنع — عن الدفع باتجاه تعديل قانون العمل بما يضمن حقاً كاملاً للاجئ الفلسطيني في مزاولة المهن، وهو تعديل كان يمكن أن يمر بسهولة في مرحلة كان فيها توازن القوى لصالح محور واحد تقريباً. هذا الامتناع لا يمكن تفسيره إلا في إطار خوف غير مصرح به من تغيّر بنية القوى الاجتماعية، أو في سياق أجندة غير معلنة تُبقي اللاجئ الفلسطيني في لبنان في حالة هشاشة دائمة يمكن استخدامها سياسياً كلما دعت الحاجة.

بين الشعارات والممارسة: ازدواجية تُصادر الحقوق

بهذا تصبح وظيفة الخطاب الإعلامي شيئاً، والممارسة الحكومية شيئاً آخر. فالهتاف السياسي عن دعم القضية الفلسطينية لا يلغي أن أول حقوق الإنسان هو الحق في العمل، وأن حرمان الفلسطيني من هذا الحق لا يقل خطورة عن أي شكل من أشكال الانتهاكات البنيوية. بل إن منع التمريض — وهو قطاع يعاني لبنان فيه نقصاً حاداً — يشير إلى أن الدوافع ليست اقتصادية ولا مصلحية، بل سياسية صرفة، وأن من يرفع شعار «القضية» في المنابر قد يكون هو نفسه أول من يصادر حقوق أهلها في الوزارات.

قرار يضر بلبنان قبل أن يظلم الفلسطيني

إن معالجة هذا الواقع تتطلب النظر إلى حق العمل بوصفه حقاً ملازماً للكرامة الإنسانية لا لصفة الجنسية، وإلى الفلسطينيين بوصفهم قوة مهنية وخدماتية أساسية في المجتمع اللبناني، وليسوا عبئاً ديموغرافياً. كما تتطلب مساءلة الوزراء بالاسم، وسؤال القوى السياسية — وفي مقدمتها حزب الله — عن موقفها الحقيقي: هل الدعم الذي يُعلن في الخطاب متطابق مع السياسات؟ أم أن «القضية» أصبحت شعاراً للاستهلاك السياسي بينما يستمر الفلسطيني في لبنان مقيّداً بقرارات وزارية قابلة للتغيير بين ليلة وأخرى؟

في دولة تعجز عن تأمين ممرضين لبنانيين للبقاء، وعجزت عن إيقاف نزيف الهجرة الصحية، يصبح منع الممرض الفلسطيني ليس مجرد خطأ، بل قراراً يفتقر إلى الحكمة الوطنية، ويتعارض مع المصلحة اللبنانية قبل الفلسطينية. وهو قرار يجب أن يُقرأ — داخلياً ودولياً — كوجه آخر من وجوه الإقصاء السياسي الذي يتقن التحدّث باسم فلسطين لكنه يعجز عن منح أبنائها أبسط حقوقهم الإنسانية.