قراءة استراتيجية في التاريخ والراهن واستحقاقات المستقبل الفلسطيني
نشر بتاريخ: 2025/12/29 (آخر تحديث: 2025/12/29 الساعة: 16:04)

تحلّ الذكرى الثانية والستون لانطلاقة حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح في لحظة مفصلية غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية، لحظة تتقاطع فيها حرب الإبادة المفتوحة بحق شعبنا، مع مشروع سياسي–أمني متكامل يستهدف تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وإنهاء فكرة الدولة، وإعادة تعريف القضية الفلسطينية خارج سياقها القانوني والتاريخي والإنساني.

هذه الذكرى لا يجوز أن تُستحضر كطقس رمزي أو مناسبة خطابية، بل بوصفها محطة مراجعة وطنية شاملة لمسار الحركة، ودورها، ووظيفتها التاريخية، ومسؤوليتها الراهنة والمستقبلية في حماية المشروع الوطني الفلسطيني.

أولًا: فتح… من لحظة التأسيس إلى قيادة المشروع الوطني

لم تكن انطلاقة حركة فتح عام 1965 حدثًا تنظيميًا عابرًا، بل تحوّلًا استراتيجيًا في الوعي الوطني الفلسطيني. فقد أعادت الحركة الاعتبار لهوية الشعب الفلسطيني كفاعل تاريخي، لا كقضية إنسانية أو ملف إغاثي، وأسست لمعادلة أن التحرير فعل إرادة وطنية مستقلة، لا منّة من أحد.

نجحت فتح في بناء مشروع وطني جامع، وتحوّلت إلى العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، ووفّرت إطارًا سياسيًا ونضاليًا مرنًا جمع بين الكفاح والممارسة السياسية، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

ثانيًا: تحولات البيئة الاستراتيجية وارتداداتها على المشروع الوطني

اليوم، يواجه الفلسطينيون بيئة استراتيجية معادية على المستويات كافة:

انهيار فعلي لمسار التسوية السياسية، وتحول “حل الدولتين” إلى غطاء لفظي لسياسات الضم والاستيطان.

انحياز دولي فاضح، تقوده الولايات المتحدة، يوفر الحصانة السياسية والقانونية للاحتلال.

تفكك النظام الدولي القائم على القانون، وتغليب منطق القوة على الشرعية.

تآكل الداخل الفلسطيني بفعل الانقسام، وضعف المؤسسات، وغياب التجديد السياسي.

هذه التحولات وضعت حركة فتح، ومعها النظام السياسي الفلسطيني، أمام أزمة دور ووظيفة، لا أزمة شعارات أو مواقف.

ثالثًا: المخاطر المفصلية على الحقوق الوطنية الفلسطينية

ما يتهدد القضية الفلسطينية اليوم يتجاوز الاحتلال التقليدي إلى مشروع تصفوي شامل، تتجلى ملامحه في:

حرب إبادة وتدمير ممنهج في قطاع غزة تهدف إلى كسر الإرادة الوطنية وإعادة هندسة الواقع الديمغرافي.

تسريع الاستيطان والضم في الضفة الغربية والقدس، وتفكيك الجغرافيا الفلسطينية.

استهداف الأونروا وحق العودة كمدخل لتصفية جوهر القضية.

محاولات فرض بدائل تمثيلية أو كيانات وظيفية تتجاوز منظمة التحرير الفلسطينية.

هذه المخاطر تعني أن المرحلة الحالية ليست مرحلة “إدارة صراع”، بل مرحلة الدفاع عن الوجود السياسي والقانوني للشعب الفلسطيني.

رابعًا: الاستحقاق الاستراتيجي المطلوب من حركة فتح

في ضوء هذه التحديات، تقع على حركة فتح مسؤولية تاريخية مضاعفة، تتطلب انتقالًا واعيًا من إدارة الواقع إلى إعادة صياغة المشروع الوطني، عبر:

إعادة بناء فتح كحركة تحرر وطني، لا كإطار إداري أو وظيفي، عبر تجديد القيادة، وتفعيل الأطر، وربط القرار بالإرادة الشعبية.

إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها المرجعية الشرعية والجامعة، على قاعدة الشراكة الوطنية، لا الاحتكار أو التفرد.

صياغة رؤية سياسية جديدة تقوم على تدويل الصراع، وتفعيل القانون الدولي، وبناء تحالفات استراتيجية خارج الهيمنة الأمريكية.

تبنّي استراتيجية نضالية مركّبة تجمع بين المقاومة الشعبية الشاملة، والعمل السياسي والدبلوماسي والقانوني، ضمن إطار وطني موحّد.

تحقيق الوحدة الوطنية باعتبارها شرطًا استراتيجيًا للنجاة الوطنية، لا شعارًا تكتيكيًا.

إعادة الاعتبار لقيم فتح التأسيسية: فلسطين أولًا، التضحية، العمل الجماعي، والالتزام الأخلاقي بالمسؤولية الوطنية.

خاتمة: فتح أمام لحظة اختبار تاريخي

في الذكرى الثانية والستين لانطلاقتها، تقف حركة فتح أمام لحظة اختبار تاريخي حاسم:

إما أن تستعيد دورها كقائدة لمشروع تحرر وطني متجدد، أو أن تترك فراغًا استراتيجيًا يهدد مستقبل القضية الفلسطينية برمّتها.

إن استعادة فتح لدورها ليست مسألة تنظيمية داخلية، بل ضرورة وطنية لحماية الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وتجديد أدوات النضال، وإعادة بناء الثقة بين القيادة والشعب، في زمن يتعرض فيه الوجود الفلسطيني نفسه لمحاولة اقتلاع شاملة.

فتح مطالبة اليوم بأن تكون على مستوى تاريخها…

وفلسطين ستبقى البوصلة، والغاية، والشرعية الوحيدة للنضال الوطني.