معالم المرحلة الجديدة، و»الأزمتان» الفلسطينية والإسرائيلية!
معالم المرحلة الجديدة، و»الأزمتان» الفلسطينية والإسرائيلية!
الكوفية إذا كان لي أن أُلخّص في كلمات بسيطة معالم المرحلة الجديدة في الحالتين، الفلسطينية والإسرائيلية أقول:
تمر الحالة الفلسطينية في مرحلة الصمود والصعود، وتمرّ الحالة الإسرائيلية في مرحلة هي البحث عن صورة القوّة بدلاً من القوّة نفسها. وأكاد أجزم بأن البحث المقارن بين الحالتين، أو بين الأزمتين الفلسطينية والإسرائيلية هو البحث الأهمّ الذي ما زال غائباً عن الأدب السياسي منذ «طوفان الأقصى»، وما قبله بقليل وحتى الآن. وأن بحث الأزمة الإسرائيلية أو تلك الفلسطينية بمعزل عن بعضهما البعض هو شكل من أشكال القصور المنهجي، وهو «ترف» متعارض مع معطيات الواقع، ويصطدم بصورة مباشرة مع الحقائق الماثلة، ويفتقر إلى الموضوعية.
دعونا نلجأ إلى مثال لتوضيح هذه المسألة التي أراها هامة، أو إلى سؤال نطرحه على أنفسنا:
هل كانت الأزمة الإسرائيلية ستكون على ما هي عليه الآن لو أن الحالة الوطنية الفلسطينية كانت موحّدة ومتماسكة، وكان النظام السياسي الفلسطيني مستقرّاً، وقادراً على التعامل بمرونة وحكمة وحنكة مع متغيّرات الواقع المحيط؟
وبنفس المقياس؛ هل كانت الحالة الفلسطينية ستكون على ما هي عليه الآن لو أن الحالة الإسرائيلية كانت متماسكة ومستقرّة، وكانت دولة الاحتلال في موقع القدرة؟ ليس من حيث القدرة المادية فقط، وإنما من حيث القدرة على إنهاء الحالة الوطنية؟ بل وأبعد من ذلك إذ إن العلاقة، وبالتالي المقارنة بين الحالتين هي في الواقع أعمق من ذلك، وأكثر تأثيراً من ذلك. وهنا، أيضاً، دعونا نطرح السؤال التالي:
هل كانت السياسة الإسرائيلية ستكون على هذه الدرجة من التطرُّف والتمترس وإلى حدود العبث لو كانت الحالة الفلسطينية مختلفة عمّا هي الآن؟ أو هل كانت الحالة الواهنة، الفاقدة القدرة على المبادرة، والانتظارية إلى درجة الضعف والاستكانة ستكون كما هي لو كانت الحالة الإسرائيلية مختلفة عن واقعها الراهن؟ أقصد أن العلاقة بين الحالتين أو الأزمتين تبدو صميمية، وغير قابلة لا للتغافل عنها ولا تجاهلها.
نعود الآن إلى الواقع في الحالتين قبل حرب الإبادة الجماعية والتجويعية.
هناك من يعتقد ــ وأنا منهم ــ أن الانتقال الإسرائيلي من مرحلة المراوحة في إطار إستراتيجية إدارة الصراع نحو مرحلة «الحسم» لم تكن ممكنة، وما كان لها أن تبدأ، أو ما كان لها أن تكون بالشكل وبالوتيرة المتسارعة التي بدأت به وسارت عليه لولا أن ضعف العامل، أو الحالة الفلسطينية كانت عاملاً مشجّعاً ومحفّزاً على هذا الانتقال، إضافة إلى تكالب عوامل وعناصر أخرى تتعلّق بالحالة الدولية، وخصوصاً العامل الأميركي، ولولا حالة الانجرار العربي نحو «التطبيع» غير المشروط عملياً، أو المشروط برهانات سائلة وغير ملزمة، ولولاه ما كان قد وصل إليه «اليمين الكهاني» من مكانة ودور في النظام السياسي لدولة الاحتلال.
وعندما تسارعت وتيرة «الحسم» بدءاً من عمليات استيطان مدروسة، وهجمات عسكرية مركّزة في شمال الضفة وجنوبها، ومن حرية كاملة في حملات المستوطنين ضد السكان المدنيين الفلسطينيين، لم يتمّ مواجهة هذه الحملات المنظمة والإجرامية بإجراءات من شأنها «ردع» هذه الحملات، وكانت الفرصة السياسية، بل وحتى البيئة الإقليمية والدولية مواتية، وكان الاحتلال سيدخل في نفق سياسي، ونفق ميداني مظلم لو أن الحالة الوطنية كلّها كانت مجمعة على المجابهة، وكانت الحالة الإسرائيلية نفسها في ظل «أزمة الإصلاحات»، أو «الانقلاب القضائي» ستدخل في مأزق كبير.
ليس هذا فقط وإنما لم تتخذ القيادات الفلسطينية أي خطوات حتى احترازية لمواجهة ما كان قد أُعلن في مؤتمر «دول العشرين» قبل «الطوفان» بوقتٍ أكثر من كافٍ حين تبنى «المؤتمر» رسمياً خطة «الممرّ الهندي»، والذي يُقصي فلسطين من جغرافية الإقليم ومن كل خرائطه.
بل لم تتخذ القيادات الرسمية إجراءً واحداً يُعتدّ به في مواجهة الشروط الثلاثة التي أعلنها بتسلئيل سموتريتش لبقاء الفلسطينيين، وعندما هدّدهم إما بالطرد أو الخنوع أو الموت.
وليس هذا فقط، وإنما جرى التنصّل الكامل، وأحياناً الغريب والعجيب من أيّ شكل من أشكال التوافق الوطني، وكانت المحطّة الأخيرة في العاصمة الصينية بكين.
أقصد أنّ وحدة الحالة الوطنية، والتنصّل من معالجتها جدّياً سبقت «الطوفان»، وهذا الأخير ليس السبب الذي أدّى إلى هذا التنصّل.
لا يمكن إعفاء حركة حماس من هذا الواقع، لا من حيث أن الانقسام الأعمق قد بدأ من انقلاب الحركة الدموي على الشرعية الوطنية، ولا من حيث تاريخ طويل من المماطلة والتسويف، ومن الرهانات والمراهنات، ولا من تاريخ أطول من الاشتراطات…
لا يمكن إعفاء حركة حماس من هذا الواقع، لا من حيث أن الانقسام الأعمق قد بدأ من انقلاب الحركة الدموي على الشرعية الوطنية، ولا من حيث تاريخ طويل من المماطلة والتسويف، ومن الرهانات والمراهنات، ولا من تاريخ أطول من الاشتراطات و»الاستدراكات» والتعجيزات التي كانت تُخفي في الواقع التطلّعات لسياسات التوازي والبدائل. لكن الحقائق على هذا الصعيد تحتاج إلى درجة عالية من الدقّة والموضوعية.
في هذه الأثناء، ومنذ «خرائط» بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» كانت عمليات عميقة من التحوّل تجري في صفوف «حماس» لم تلحظها القيادة الرسمية، وهي أن «حماس» بقيادة يحيى السنوار ــ كما أوضحنا وكتبنا قبل عدّة شهور ــ إذ قرّرت القيادة «الحمساوية» بعد ما أُسمّيه بترتيب البيت «الحمساوي» أن تقوم بما قامت به في «الطوفان» لقلب الطاولة، ووضع الدولة العبرية في مأزق تاريخي جديد يكبح تطلُّعاتها نحو حسم الصراع، ويضعها مكشوفة أمام العالم كلّه، ويورّطها في حروب ليست قادرة على الانتصار فيها، أو ليست جاهزةً لخوضها دون أن تدفع ثمناً باهظاً هو في الواقع الثمن الذي يساوي مكامن قوّتها الحقيقية، وقد نجحت الحركة ــ كما أرى نجاحاً كبيراً ــ بصرف النظر عن دقّة بعض الحسابات، أو الرهانات، أو حتى التقديرات لنفسها، ولدولة الاحتلال، أو لـ»الغرب» والعرب.
صحيح أنّ الخسائر البشرية والمادية في الجانب الوطني كانت مرعبة وباهظة لكنها أفشلت مخطّط حسم الصراع، وأخفق الحلف المعادي في تجاوز الشعب الفلسطيني، وهي الآن موجودة في صميم مرحلة هي في الواقع مرحلة الصمود التاريخي التي ستسبق انهيار المشروع الصهيوني أو تصدّعه، أو عجزه عن المضيّ قُدماً في مشروع تصفية الحقوق الوطنية.
لن تقوم لنا كشعب فلسطيني أيّ قائمة في المدى المنظور، وستتحوّل المرحلة الجديدة التي نتجت عن حرب الإبادة الجماعية والتجويعية إلى كارثة وطنية إذا لم نعد بناء الحالة الوطنية.
وبالمقابل، وبعد أن أخفقت دولة الاحتلال، وتكسّرت رماحها، وأخفقت في حسم الصراع على المستويين الفلسطيني والإقليمي، وبعد أن تجرّدت من كل مكامن قوّتها التاريخية من رواية ومكانة ودور وظيفي، وبعد أن تصدّع مجتمعها، وبدأ بالسؤال عن مصيرها، ومصير المشروع كلّه أصبحت دولة الاحتلال أمام سؤال وحيد: ما هي الوتيرة الحقيقية، وما هي أدوات تسريع سقوط مشروعها، وتحطم طموحاتها وأطماعها؟
والفرق الحقيقي الذي بات يقرّ به داخل دولة الاحتلال المزيد من المراقبين، وبات يشكّ في قدرة المشروع الصهيوني على الانتصار المزيد من عتاته ومؤيّديه، هو أن خسارة دولة الاحتلال ومشروعها الأكبر هي خسارة وتصدّع في الأسس والركائز، في الدور وفي الوظيفة، في الأهلية والقدرة، في حين أن الخسائر الباهظة في الجانب الوطني هي خسارة في القدرة على الحفاظ على المنجزات، أو القدرة على توفير مقوّمات مرحلة الصمود، لأن القادم في حالة إن توفّر ذلك هو الصعود، وليس غيره.
وهذه هي المعادلة التي تحتاج إلى معالجات قادمة، بما فيها الحوارات الوطنية المطلوبة، والتي بدأ بها بعض الكتّاب الفلسطينيين، والتي سنأتي عليها في أقرب فرصة.